كيف نفهم أوباما؟؟
سمير مرقس
معنهاية السبعينيات، وتحديدا في سنة 1979 ـ أي منذ 30 عاما بالتمام والكمالـ وقعت مجموعة من الأحداث المتتالية اتسمت بالطابع الديني اللافت، كانأولها عندما شجع الرئيس كارتر، شخصيا، الاحتفال الرسمي بذكرى إبادة اليهودفي أوروبا على يد النازية،وافتتاح متحف خاص بالمحرقة في واشنطون،وتم توظيفذلك دينيا على المستوى اليهودي .
وبعدها بأشهر قامت الثورةالخومينية..ثم انتخب البابا يوحنا بولس الثاني..وصعود التيار الدينيالمحافظ في أمريكا... كما شهد العالم إحياء الكثير من الخصوصيات الدينيةوالمذهبية والعقائدية..إنها الظاهرة التي وصفها أحد الباحثين الفرنسيينالمعتبرين،برتران بادي،بأنها الأحداث التي ساهمت في "انقلاب المسرحالعالمي" و"عودة المقدس /الديني" إليه.
ورغم الاختلاف النوعي بينالأحداث من جهة، وبين الأديان والمعتقدات المختلفة من جهة ثانية، إلا أنما جمع بين هذه الأحداث ـ على اختلافها ـ أنها كانت تتسم بالرؤية الدينيةالمحافظة وأن من قادوها كانوا من "المحافظين الدينيين"...
المحافظون الجدد
وما أن حلت سنة 1980 حتىوجدنا ريجان وتاتشر، وقد تسلما حكم الولايات المتحدة الأمريكية وانجلتراوإعلانهما تطبيق ما عرف بالسياسات النيوليبرالية التي اتسمت بالمحافظة الشديدة في المجال الاقتصادي..وتبلور تيار مهم في الحياة السياسية الغربيةوالمؤسسات الاقتصادية الدولية يتبنى هذه السياسات المحافظة وهم الذينعرفوا لاحقا "بالمحافظين الجدد".
وعلى الرغم من أن قراءةالخطاب الديني المحافظ ،سواء في الشرق أو الغرب،في المجمل،تضمن معارضةللكثير من منجزات الحداثة... فإن القارئ المدقق سوف يلحظ أن هذه المعارضةلم توجه إلا للمسائل ذات الطابع الأخلاقي فقط مثل: مناهضة الإجهاض،وأبحاثالخلايا الجزعية، والهندسة الوراثية،وملاحقة الإبداع الفني والأدبي..الخ،.و في مقابل التركيز الشديد على هذه القضايا لم يلتفت التيار الدينيالمحافظ إلى شراسة سياسات المحافظين الجدد و ما يترتب عليها من آثار ضارةعلى الشرائح الوسطى والدنيا من الجسم الاجتماعي.
المفارقة أن القاعدةالاجتماعية للتيار الديني المحافظ ، في الأغلب،هي من الشرائح الوسطىوالدنيا..أي أن هذا التيار لعب دورا حمائيا لكل ما يتهدد هذه الشرائح منالناحية الأخلاقية وما يمس وحدة الأسرة وتربية أولادها...ولكنه لم يهتمبحماية نفس الشرائح التي يستمد منها شرعيته، من تداعيات السياساتالنيوليبرالية.
من جانب آخر،لم تسلمالاتجاهات الدينية ذات الطابع النقدي والتي حاولت من خلال اجتهادات منفتحةعلى العصر أن " تعقلن" الحياة الحضرية الحديثة وأن تقدم تفسيرات دينيةللمستجدات الحياتية، من حصار المحافظين الدينيين لها.
كما حاولت هذه الاتجاهاتالتجديدية لفت النظر إلى مساوئ السياسات النيوليبرالية ومواجهة الفقروالأفكار التي تبرره باعتباره مسألة قدرية ومن ثم على الفقراء الاستسلامله، والقبول بالحلول الخيرية.
كما اجتهدت التياراتالتجديدية أن تقدم تفسيرات علمية لأسباب الفقر وكيفية الخروج منه وتمكينالناس انطلاقا من أن الله قد منح الجميع قدرات، وعليه يجب أن تتوفر أمامهمالفرص المتساوية لإطلاق قدراتهم. ولكن وعلى الرغم من ذلك تعرضت هذهالاتجاهات للإقصاء من قبل المحافظين الدينيين.
حصار التجديد
وتساوت التيارات الدينيةالتجديدية في الشرق و الغرب في تعرضها لهذا الحصار من قبل المحافظين حدثهذا في الولايات المتحدة الأمريكية عندما حوصر ما يعرف بتيار"المسيحيةالجديدة" (ليس المقصود هنا بالجديدة تأسيس دين جديد وإنما هؤلاء الذينيقومون بعمليات تجديد ديني للفكر والخطاب لكي يكون مواكبا للمستجدات فيالحياة اليومية) من قبل اليمين الديني الجديد.
كما حدث هذا عندما استبعدتالثورة الإسلامية الإيرانية ذات الطابع الثيوقراطي (حكم رجال الدين)الاتجاهات الإسلامية المدنية والتي تعاونت معها في بدايتها،كذلك الاتجاهاتالتي كانت تحمل رؤى اجتماعية نقدية علمية مثل الاتجاه الذي كان يمثله عليشريعتي..أيضا حدث هذا مع حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية من قبلقيادات الفاتيكان التي التزمت المحافظة الشديدة...الخ.
وهكذا حدث توافق بينالمحافظين: "الدينيين" و"السياسيين"... توافق أقرب إلى التحالف استطاع منخلاله المحافظين الجدد من تمرير سياسات اقتصادية مريرة من دون مقاومة تذكرمن المتضررين الذين انشغلوا بالدفاع عن القضايا الأخلاقية ـ على أهميتها ـوتركوا كل ما يتهدد حياتهم اقتصاديا وسياسيا، من جهة. ومن جهةأخرى،استبعاد الاتجاهات الدينية التجديدية التي كانت مؤهلة على نقد وتصويبالسياسات الاقتصادية غير العادلة.
نعم ربما يكون التيارالمحافظ الديني قد لعب دورا مقاوما لكثير مما كان يتهدد المنظومة الثقافيةالإنسانية باختلافاتها...إلا أنه لم يستطع أن يبذل نفس الجهد في صد الآثارالسلبية لسياسات السوق...بهذا المعنى حدث التحالف بين المحافظين السياسيينوالدينيين: انه تحالف القرن... التحالف الذي ترتب عليه تغيرات جوهرية فيالعلاقات الدولية من جهة، وفي المسارات الداخلية للدول من جهة أخرى، و كانمقدمة للكثير من الوقائع والصدامات الحاسمة والمثيرة...
لم ينحصر هذا التحالف فيسياق بعينه بل تعدد وجوده الكوني..بيد أن تجليه الأهم كان إبان فترتي حكمالرئيس بوش الابن(2001 ـ 2008)، حيث عبر هذا الحكم عن تحالفبين:"المحافظين الدينيين / الثيو كونز" بقاعدتهم الاجتماعية من الشرائحالوسطى والدنيا التي يسرت حكم "المحافظين الجدد / النيو كونز" الذين حكموالصالح الأغنياء من خلال منحهم إعفاءات ضرائبية واتخاذ إجراءات كانت مضادةللفقراء وللشرائح الوسطى..لقد كانت الصفقة التي أبرمها هذا التحالف مفادها:
"تديين المجال العام" فيمقابل "السوق"،أو التبرير الديني لسياسات السوق.(بحسب ما جاء في "روحالديمقراطية الرأسمالية" لمايكل نوفاك وكذلك "نخبان في صحة الرأسمالية"لارفينج كريستول)
لقد استيقظ الأمريكيون على واقع يقول بأن هذه الصفقة لم تؤت ثمارها وانها لم تعد صالحة للاستمرار، فالخسارة كانت جسيمة.
حان وقت التغيير
وجاءت التغيير عبر القاعدةالانتخابية الطبقية والفئوية والجيلية الجديدة باستحالة استمرار هذاالتحالف (وإن كان لا يعني اختفاء أطرافه).. والدفع بأوباما، ليس كشخص،ولكن كممثل للقاعدة الجديدة بعناصرها لكتابة عقد اجتماعي أمريكي جديد...ذلك بمحاولة استعادة التوازن للوطن بما يضم من مواطنين، وإعادة الاعتبارللتنوع بألوانه السياسية والدينية والمذهبية والعرقية.
واستعادة أمريكا (المختطفة)من يد المحافظين:الدينيين والسياسيين، إلى كل تياراتها:الليبرالية،والمعتدلة والمحافظة..فلا يحتكر المجتمع من قبل تحالف ضيق بين المحافظينفقط..وهو ما عبر عنه أوباما ـ تماما ـ في خطاب الاحتفال بتنصيبه رئيسالأمريكا (بالتأكيد على فكرة الوطنية الجامعة لحقها بتكوين مجموعة عمل خاصةبالطبقة الوسطى وهو ما يمكن أن نتناوله لاحقا بالتفصيل). وهو ما أظن أنهسيكون له انعكاساته الإيجابية على العالم معلنا نهاية تحالف القرن وبدءمرحلة جديدة...
في الوطنية الأمريكية
والوطنية في الأدبيات السياسية الأمريكية، تتراوح ـ تاريخيا ـ بين رؤيتين:
الأولى، تقول بأن عظمة الولايات المتحدة الأمريكية تقوم على طبيعة نشأتها المتفردة وما أنجزه شعبها منذ تأسيسها.
والثانية،تؤمن بأن عظمة أمريكا تكمن في التزامها بما تمثل من قيم ومثل ومن ثم محاولاتها لجعلها موضع التنفيذ.
هاتان الرؤيتان ظلتا محلنقاش من قبل الليبراليين والمحافظين لعقود،فمن جانب كان الجمهوريونيتمسكون بأنهم الورثة الأحق لتراث الوطن الأمريكي في مواجهة الديمقراطيين.
وعلى الجانب الآخر كانالديمقراطيون يصورون الجمهوريون بأنهم يعتقدون بأنهم حفظة القوميةالأمريكية،بيد أن هذا الاستئثار منع أمريكا من أن تعيش مثلها الحقيقية...
وفي ظل هاتين الرؤيتين صعداليمين الديني برؤيته حول الوطن الأمريكي وأحال الوطنية إلى الدين مشدداعلى مرجعية العقيدة الدينية في كل أمر من أمور الحياة رابطا إياها باللونوالمذهب والعرق،حيث تمسك اليمين الديني" بمركزية الهوية:الأنجلوـ سكسونيةالبيضاء اللون".
في هذا السياق كان كثير منالأمريكيين، وبخاصة الذين ينحدرون من أعراق غير أنجلو سكسونية(آسيوية،ولاتينية ـ مكسيكية هسبانية...الخ) كذلك الذين ينتمون إلى معتقدات لاتنتمي إلى مذهب التيار الرئيسي.
وأيضا يضاف إلى ما سبقالملونين من غير البيض، يعتبرون الوطنية الأمريكية لا تمثلهم.فهم خارجهابحكم ما يحملون من صفات لا تتبع الهوية المركزية وفي نفس الوقت، ليس صدفة،أن هذا الشعور بعدم الاندماج الوطني رافقه ـ على الدوام ـ تهميش اقتصاديبدرجة أو أخرى...وهو ما دفع البعض إلى استشعار الخطر بأن أمريكا في طريقهاللتفكيك (هانتنجتون في كتابه من نحن؟ 2004) ..وأنه لا سبيل إلا بالعودةإلى الهوية المركزية الأولى لأمريكا حتى لا تتحول أمريكا إلى أمريكتين...
أوباما والمسرح الامريكي
في هذه اللحظة ظهر أوباماعلى مسرح الحياة السياسية الأمريكية طارحا أفكاره من أجل مستقبل أمريكا(يمكن مراجعة كتابه جرأة الأمل The Audacity of Hope،ومجموعة خطبه وكثيرمن الكتب التي تناولت أوباما مثل: The Obama Nation :Leftist And The Cultof Personality & The Breakthrough)..
أخذا في الاعتبار ضرورةالتعامل معه ليس باعتباره ظاهرة استثنائية أو أنه كسب بسبب استخدامهللتقنيات الحديثة فحسب أو بسبب الأزمة المالية...، وإنما لأنه تعبير عنالتحولات النوعية الاجتماعية والجيلية والاقتصادية والطبقية التي تشهدهاأمريكا (يمكن مراجعة الدراسة التي أجراها معهد بروكنجز حول نتائجالانتخابات والتي عنوانها :"الاختراق الديموجرافي ").
ونشير هنا فقط إلى كيف نجحأوباما في أن يعتمد في تمويل حملته الانتخابية على الناس وليس على جماعاتالمصالح والشركات الاحتكارية الكبرى كما هو الحال تاريخيا مع مرشحيالرئاسة الأمريكية، أو على الرأسمالية النفطية كما فعل بالأساس بوش الابن.
* أن أهم ما طرحه أوباما يمكن أن نلخصه في أمرين:
"الوطنية الجامعة " و "المساواة الاجتماعية" من حيث إعادة الاعتبار لمفهوم "الطبقة الاجتماعيةوليس العرق" في الثقافة الأمريكية...وسوف نركز على رؤيته حول الوطنيةونتحدث عن رؤيته للمساواة الاجتماعية في مقال لاحق..ولكن قبل ذلك نسرد هذهالواقعة...
ففي منتصف سبتمبر 2007 كان هناك احتفال يقيمه الحزب الديمقراطي الأمريكيبولاية أيوا.. لم يكن الحزب استقر بعد على من سوف يخوض سباق الرئاسةالأمريكية باسمه(تمت في4/11/2008)... لذا كانت كل الأسماء المرشحة،تقريبا،ـ آنذاك ـ حاضرة هذا الاحتفال:جون ادواردز،وهيلاري كلينتون،وكريستوفردودد، وباراك أوباما.
والتقطت صورة للجميع أثناءالسلام الوطني وما أن نشرت مجلة تايم الأمريكية الصورة، حتى ثار جدل كبيرحولها... فلقد كان جميع من في الصورة يضع يده اليمنى على قلبه ـ بحسبالتقاليد الأمريكية ـ أثناء تلاوة النشيد الوطني..بيد أن أوباما،كانالوحيد الذي لم يكن يضع يده على قلبه.
واستدعى الأمر العودة لشريطالفيديو الذي سجلته محطة أخبار ABC، فتبين كيف كان أوباما يلف يداه أمامصدره في وقفة عكست خروجا عن المألوف والتقليدي المتعارف عليه في مثل هذهالمناسبات...انتهز البعض الفرصة للتشكيك في وطنية أوباما..
الوطنية الحقة
لقد حاول البعض أن ينال منأوباما وذلك بالتشكيك في وطنيته، كي يقطع عليه طريق الترشح لكرسيالرئاسة،... و ثارت نقاشات حول معنى "الوطنية الحقة" TruePatriotism،وكانت هذه النقاشات بداية كي يطلق منهجا جديدا في مناقشةالقضايا الأمريكية.
فكما هو معروف تاريخيا فانالشعب الأمريكي لا يعنى كثيرا إلا بالقضايا ذات الطابع العملي .. و دائمايتوقع أن يهتم السياسيون بموضوعات من نوعية التأمين الصحي والضمانالاجتماعي.
أما السياسة الخارجية فهناكتوكيل تاريخي غير مكتوب أعطاه الأمريكيون لسياسيه لإدارة ملفات السياسةالخارجية...بيد أن أوباما يرد على ما أثير ـ ومعه انخرط الناس في النقاش ـقائلا:الوطنية، أكثر من مجرد شكل نلتزم به وأكثر من مجرد دبوس معدني يتمتصميمه على شكل العلم الأمريكي كي يتم وضعه على صدورنا...
الوطنية، هي أن ننخرط جميعا في مناقشة ما يعد "مهما من قضايا ترتبط بالأمن القومي الأمريكي"...
الوطنية، هي أن يحلم الجميعمن أجل الوطن الذين يعيشون فيه..فالحلم ليس حكرا على البعض لاعتباراتتتعلق بلونهم أو مذهبهم أو أصلهم أو مكانتهم وإنما هو حق لكل من يعيش علىأرض الوطن الواحد بغض النظر عن المذهب واللون والعرق والمكانة... وليس منحق أحد أن ينعت أحد بأنه أقل وطنية.
إنها وطنية الطريق الثالث Third Way Patriotism:
ليست الوطنية من جهة هيالتي يتناحر حولها كل من الحزبين الكبيرين ، أو من جهة أخرى يتنازعها كلمن المحافظين والليبراليين،بحيث تكون حكرا للبعض واستبعادية عند المحافظينclubby & exclusionary.. أو ليست استبعادية بالقدر الكافي لدىالليبراليين not exclusionary enough ، كما إنها ليست "استعلائية" كمايطرحها التيار الديني بحيث تقصي المغايرين والمختلفين،
إنها وطنية جامعة للمواطنينالساعين لبناء عظمة الوطن واستمرارية الحفاظ علي تقدمه.. فالوطن ليس للبعضدون الآخر فهو ملك للجميع.. وخيره لابد أن يتقاسمه الكل بالدرجة التيتجعلهم يشعرون بالفخر بوطنهم... وفق ما سبق يطرح رؤيته لحل المسألةالاجتماعية والاقتصادية… فالبداية لديه تبدأ باستنهاض الهمة الوطنية..
وهنا نستعيد كلمات أوبامايوم تنصيبه رئيسا لأمريكا حيث يقول :" من اليوم يجب أن ننهض، وأن ننفضالتراب عنا وأن نبدأ في إعادة بناء أمريكا" اعتمادا على "الأمانة، والعملالشاق، والشجاعة، والعدل، والتسامح، والولاء، والوطنية"..فهذا هو " ثمنووعد المواطنة"..
الرئيس الموحد
"لا يوجد أمريكاسوداء،وأمريكا بيضاء،وأمريكا آسيوية ـ هناك الولايات المتحدةالأمريكية.."(أوباما في كتابه "جرأة الأمل" ص231 ـ 2007).
وتعهد أوباما أن يكون رئيسامُوحدا للأمريكيين بغض النظر عن لونهم أو أصلهم العرقي أو مكانتهمالاجتماعية... إنها الفكرة التي انشغل بها على مدى حملته الانتخابية داخلالحزب الديمقراطي، أولا..ثم أثناء السباق الرئاسي على كرسي الرئاسةالأمريكية ثانيا ... وهي ما دفعت بالكثير من الباحثين والمعلقينوالمتابعين أن يصفوا المشروع الفكري لأوباما بأنه مشروع"تجاوزالانقسام"transcending division بين المختلفين عرقيا وطبقيا ولونياوثقافيا وحزبيا وأيديولوجيا... الخ...
تحمس أوباما لإسقاط كلالحواجز التي تعوق أي إنسان من الحصول على حقوقه أو تحرم أي مواطن منالاعتراف بمواطنيته بما يترتب على ذلك من نتائج.. وكل المواطنين مدعوينللجلوس على المائدة وان يكون لهم نصيب في الكعكة بغير تمييز...وفي سبيلذلك لابد من هدم أي جدار يحول دون مشاركة أي أحد على قاعدة المساواة..
فالحضور المتكافئ حق لكلطرف من الأطراف التي تعيش معا..ولابد لكل طرف أن يتخلى عن الصورة النمطيةالمسبقة التي يكونها عن الآخرين والتي يدخل فيها الحكم على الكفاءة وفقمعايير تمييزية مثل اللون أو الثروة أو اختلاف الدين أو المذهب أو الأصلالعرقي...
واستطاع أن يحمل للمهمشينفي أمريكا، بسبب لونهم وأصلهم العرقي وفقرهم ،أملا بأنه يطرح مشروعا متحررمن الخطايا التي عرفها التاريخ الأمريكي من عبودية ومعسكرات اعتقالاليابانيين وقيود وقوانين تمييزية ضد الملونين والمكسيكان،وكل أشكالالتوترات والصراعات الثقافية والاستعلاء الأمريكي الأبيض بالأساسوالملاحقة المكارثية ضد المبدعين..
من هنا كانت دعوة أوباماإلى الاندماج بين كل الأمريكيين في إطار الوطن الواحد على قاعدةالمواطنة...وفي هذا يقول أوباما (نقتطف من خطابه التاريخي"نحو اتحاد كامل"أثناء حملته الانتخابية في ولاية فيلادلفيا بتاريخ 18/3/2008) :
"...إن الوثيقة الدستوريةالتي وقعت قبل 221 عاما.. قدمت إجابة عن السؤال حول مسألة العبودية منخلال فكرة جوهرية / أنموذج هي: المساواة في المواطنة.. دستور وعد شعبهبالحرية والعدالة، وباتحاد ـ بين الأمريكيين ـ يمكن ويجب تحقيق كماله عبرالوقت...
بيد أن ما تم خطه على الورقلم يكن كافيا لتحرير أسر العبيد، أو تدعيم الرجال والنساء بغض النظر عناللون والعقيدة بكامل حقوقهم...كمواطنين أمريكيين...وهو ما احتاج منالمواطنين الأمريكيين ـ على مدى أجيال ـ أن يتحركوا من خلال احتجاجاتونضالات من أجل تضييق الفجوة بين المثل التي وعدوا بها وبين الواقع."
ويعد فوز أوباما بمقعدالرئاسة الأمريكية هو نجاح لرؤيته الفكرية التي تصب في اتجاه الحضورالمتكافئ للجميع بدون تمييز.. وبهذا يتحقق حلمه في أن "ينهض الوطن مرةأخرى" وهي العبارة التي دفع مارتن لوثر كينج حياته من أجلها عام 1968واستطاع أوباما أن يجعلها حقيقة بعد 40 عاما...
المصير المشترك
"... وإلى جميع منيشاهدوننا الليلة بعيدا عن سواحلنا من البرلمانات والقصور أو من يجلسونقرب أجهزة الراديو في الزوايا المنسية من عالمنا، أقول إن قصصنا متفردةوغير متكررة ولكن مصيرنا مشترك..."(من خطاب أوباما الذي ألقاه بعد إعلانفوزه أمام 120 ألفا من مؤيديه في شيكاغو)
اذن مثل فوز أوباما أملاونموذجا ليس فقط للداخل الأمريكي وإنما للكثيرين من خارج أمريكا..فالمتابع لمسيرة أوباما السياسية وخطاباته المتميزة والقارئ لكتابيه:"أحلام أبي..قصة عرق وإرث"(1995) و "جرأة الأمل"(2006) ، يدرك أنه أمامشخصية مركبة بكل المقاييس لا ينبغي أن تؤخذ بخفة. وهو ما تعكسه تفاصيلطفولته وتكوينه الثقافي الرفيع وخبرته العملية في تنظيم المجتمع وعبقريتهفي أن يقوم بالتهجين بين الممارسة العملية التي اختبرها كمنظم مجتمعيCommunity Organizer وبين عمله كسياسي Politician.. ولرؤيته لدور الطبقةالمتوسطة وأهمية استعادتها فاعلة في الواقع السياسي الأمريكي .
وأخيرا شخصيته المتعددةالهويات...وراديكاليته المرنة التي تنتمي لخلفية يسارية عريضة وانفتاحهالعابر للانقسام وتفعيله للوطنية الأمريكية واستنهاضه للهمة الوطنيةوبخاصة لدى الأجيال الشابة..وتقديمه رؤية مبتكرة للتغيير..كل هذا ساهم فيأن يكون أوباما محل إعجاب واقتداء ليس للشخص، وإنما للفكرة وللتجربة،ليسفقط بالنسبة للأمريكيين، وإنما لغيرهم خارجها، وذلك على المستويين السياسيوالثقافي ...
فلقد تجاوزت أفكاره السياقالأمريكي لتصبح نموذجا بات البعض في سياقات أخرى يستلهمونها،حيث أصبحتفكرة عبور الانقسام رمزا للكثيرين يستعيدها الساسة والنشطاء والشبابوالجماعات العرقية هنا وهناك.
فهاهو ساركوزي يشبه نفسهعلنا بأوباما من حيث أنه الابن الفرنسي اليميني لأب مهاجر لفرنساأرستقراطي من أصل مجري مثلما أوباما ابن لأب من أصل كيني...وتسابق جوردونبراون ودافيد كاميرون في انجلترا على الحديث عن"أوبمة" المملكة المتحدةورفع شعار التغيير.
ووصف بعض المراقبين ايفوموراليس رئيس بوليفيا الذي ينحدر من سلالة السكان الأصليين هناك بأنهأوباما البوليفي...وهاهي وكالة رويترز تصف السيدة كوماري ما ياواتيالمرشحة لرئاسة الوزراء في الهند التي تقود حزب الداليت أو المنبوذينبأوباما الهند...وفي نيوزيلندا نجحت الأقلية الماورية بالحصول على مقاعدبرلمانية تتيح لها دورا أكبر في العمل السياسي واعتبرت ما تحقق قريب من ماأنجزه أوباما... وهكذا أصبح أوباما رمزا لفكرة تجاوز الاختلاف بمستوياتهالمختلفة .
لقد وجد المشروع "الأوبامي"قبولا ـ ليس فقط في الداخل الأمريكي ولكن لدى من هم خارج أمريكا ـ لجدتهوتجاوزه للكثير مما هو تقليدي وذلك على المستويين السياسيوالثقافي/الحضاري .. ذلك لما أبداه من تفهم للتحولات الكونية وطرحه أهميةأن تعمل الإنسانية معا فيما يتعلق بالمشكلات التي تتهددها…
انه خطاب جديد تطرحهالقيادة الأمريكية هو:" خطاب المصير المشترك بين أبناء الحضارات والثقافاتالمختلفة وليس التناحر والسجال وتقسيم العالم إلى غرب وآخرين. "
إلى العالم الإسلامي
"…إلى العالم الإسلامينقول،إننا نسعى لسلوك طريق جديد إلى الأمام،أنه طريق يستند إلى المصلحةالمتبادلة والاحترام المتبادل" Mutual Interest & Respect ) )(منخطاب تنصيب أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ـ 20/1/2009)
إن أهم ما فعله أوباما فيالداخل الأمريكي ويعد تحولا نوعيا للواقع السياسي الأمريكي ـ و يشير إلىأن نضال الحركات المدنية التي بدأت في الستينيات لم تضع هباءـ هو:
* إعادة الاعتبار إلى"الوطنية الجامعة " و " المساواة الاجتماعية" على قاعدتي الاندماجوالتكافؤ لكل الأمريكيين.. انها التجربة التي راقت للكثيرين خارج أمريكامن جهة،وفي نفس الوقت ينهجها أوباما عمليا في رؤيته للعلاقة بين الثقافاتوالحضارات فنجده يطرح:
* فكرة المصير المشتركللإنسانية والتعاون الإنساني العالمي، متجاوزا الفكرة اليمينيةالمحافظة:الدينية والسياسية، التي تقسم العالم على أساس ديني أو حضاري..
وفي هذا الصدد يقول أوباما"الاحترام كل الاحترام لكل الأديان ولكل الثقافات.. ولتكن المهمة الأولىهي البحث عن المشترك ومواجهة ما يتهددنا"...
إن الفكرة المحورية لديه هيالبحث عن القيم المشتركة Communal Values، بين المغايرين...وفي هذا المقاميقول في سيرته الذاتية"جرأة الأمل" وفي الفصل المعنون "قيم" ما خلاصتهالآتي:
"..إن قيمنا المشتركة،وإحساسنا بالمسئولية المشتركة، وتضامننا الاجتماعي والحضاري، ينبغي أن يتمالتعبير عنها ليس فقط في الكنيسة والمسجد..،ولكن من خلال العملالمشترك...فأنا أومن بقوة الثقافة لتحقيق النجاح والتماسك..."
إن العلاقة بين الثقافاتوالحضارات تقوم على أمرين المصلحة المتبادلة والاحترام المتبادل انطلاقامن أن مصير الإنسانية واحد ولابد من أن يعمل الجميع من أجل تأمين مستقبلمشترك أفضل لسكان الكوكب على اختلافهم.. وفي سبيل بلوغ ذلك يطرح أوباماتصورا مؤسسا على توفر عنصرين يتفاعلان فيما بينهما هما:
حدوث تحول ثقافي Cultural Transformation يتجاوز الانقسام والاختلاف بين الثقافات والحضارات.
فعل سياسي PoliticalAction، يقوم على المبادرات المبدعة والسياسات المتميزة التي تجعل منالتحول الثقافي نحو بلوغ المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل حقيقة.
إن رؤية أوباما للعلاقة بينالثقافات والحضارات تنطلق من الحالة الأمريكية التي يراها أمة تضم كل من"..مسيحيين ومسلمين وهندوس وغير مؤمنين.. إلخ" حيث يعتبر ذلك مصدر ثراء لاضعف... وبنفس المنطق يرى التنوع الحضاري الكوني هو مصدر ثراء "ولابد أنتنجح الإنسانية بالعمل المشترك أن تشفي جراحها "..."ولأن العالم قدتغير... فعلينا أن نتغير نحن معه أيضا"
المنهج الأوبامي
وفي هذا السياق يطرح أوبامامنهجا جديدا ـ يعد نقطة تحول في النظرة الأمريكية التقليدية تجاه العالم ـتحول يتم فيه تجاوز النظرة الاستعلائية الأمريكية التي تعتمد على الهيمنةوالقوة واحتكار الموارد (درسنا هذا تفصيلا في كتابنا الإمبراطوريةالأمريكية:ثلاثية الثروة والدين والقوة)،ويقوم هذا المنهج على بناء الجسورمن أجل حضارة إنسانية أفضل حيث يلتزم بالعمل مع الجميع ... ويحدد عناصرهذا المنهج ـ بحسب ما جاء في خطاب تنصيبه ـ كما يلي:
"إلى الفقراء في العالم..
نتعهد بالعمل معكم جنبا إلى جنب لجعل مزارعكم تزدهر،
وجعل المياه النظيفة تتدفق،
ونطعم الأجسام التي تموت جوعى ونغذي العقول الباحثة عن المعرفة ،
وإلى الأوطان التي تنعم بالوفرة النسبية نقول:
لم نعد نحتمل الشعور باللامبالاة بأولئك الذين يعانون خارج حدودنا،
كما لم نعد نستطيع استهلاك موارد وخيرات العالم من دون أن نعي آثار ذلك،
ولأن العالم قد تغير...فعلينا أن نتغير نحن معه أيضا...".
بهذه الروحية يحاول أوباماعبور الانقسامات السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية في الداخلوالخارج الأمريكي ... إنه نهج جديد يدعمه أجيال جديدة بازغة وشرائحاجتماعية تريد أن يكون لها مكان تحت الشمس.
حيث يريد هؤلاء أن يرواتغييرا في العلاقات الداخلية للمجتمع الأمريكي من جهة، ولعلاقة أمريكابالعالم بما يضم من ثقافات وحضارات من جهة أخرى.. هناك مساحات كثيرة يمكناستثمارها فيما يطرحه أوباما من تصورات أظنها ـ في حدود اطلاعي على الشأنالأمريكي ـ تمثل تحولا نوعيا للعقل الأمريكي بالرغم من أية ملاحظات،وكونهاتعكس روحية جديدة لا مناص من ضرورة الاستجابة لها بغير تفريط ...في عالميعاد تشكيله من جديد..
0 التعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك